فصل: مسألة أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث قال ثلثي يجعل حيث أراد الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة شهد هو والوصي معه أن أباه أعتق هذا الرقيق:

وسئل مالك: عن رجل أوصى إلى ابن له كبير وله ولد صغار ذكور وإناث وأشهد معه رجلا آخر وأعتق رقيقا أتجوز عتاقهم بشهادة ابنه وهو وصي مع الرجل؟ قال: نعم إذا لم يتهم مثل أن يَجُرَّ وَلَاء.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه شهد هو والوصي معه أنَ أباه أعتق هذا الرقيق أو أنه أوصى بعتقهم فتجوز شهادته مع الوصي إِن لم يكن لولائهم خطب، وإن كان لولائهم خطب لَمْ تجز شهادته إذا كان في الورثة نساء مِمن لا يثبت له الولاء، وإِن لَمْ يكن في الورثة إِلَّا من يثبت له الولاء جازت شهادته عليهم.
هذا نص قوله في المدونة وغيرها، وأما إن أعتقا العبيد ثم شهدا بعد تنفيذ العتق لهم أن الميت أوصى بذلك إليهما لم تجز شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما ليجيزاه وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى في جارية له أن تباع رقبة فأبت الجارية وأحبت البيع على غير عتق:

وسئل مالك: عن رجل أوصى في جارية له أن تباع رقبة فأبت الجارية وأحبت البيعَ على غير عتق، قال: إن كانت الجاريةُ رائعة رأيت أن تباع على غير شرط في العَتَاقَة وإن كانت من الخدم مِثْل ثَمَن سِتِّينَ دينارا رَأَيْتُ أن تباع رقبة بشرط.
قال محمد بن رشد: هذا في الوصايا الأول من المدونة أنها إن كانت من جواري الوطء ممن تتخذ، كان ذلك لها، وإن لم تكن منهن بيعت ممن يعتقها إلّا أنه لم يذكر في أثمانهن حدا، وقال في كتاب العيوب منها: إنّ أثمانَ الخمسين والستين من المرتفعات، فقيل: إن ذلك لما ها هنا إذ جعل أثمان الخمسين والستين من المرتفعات.
والصواب أنّ ذلك اختلاف من القول، فأثْمَان الخمسين والستين من المرتفعات اللاتي تجب المواضعة فيهن ولا يجوز التَّبَرِّي مِنْ حملهن وَلَسْنَ من المرتفعات اللائي لهن أنْ يُبَعن على غير شرط فتبطل الوصية فيهن، بدليل قوله في سماع أبي زيد: وأثمان الستين ليست بِرائعة في هذا، قال في كتاب الوصايا الأول من المدونة، وقد قيل: لا ينظر إلى قولها وتبَاع للعتق إلّا ألّا يُوجَدَ من يشتريها بوضيعة الثلث إن كان للميت مال يحمل الجارية، وقوله: إن كان للميت مال يحمل الجارية مفسر عندي لقول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ لأن الرجل لو أوصى أن يُباع عبده لم يجز ذلك على الورثة إذْ لم يحمله ثلث، وقد قال ابن لبابة في قوله في المدونة بيعوا عبدي من فلان لَمّا لم يأمر الموصي أن يعطاه إلّا بثمن لم يقل أحد إنه ينظر إلى العبد إن كان يخرج من الثلث أمْ لا يخَرج منه، وليس قوله بصحيح إِذ ليس للميت أن يحجر على ورثته إمساك عبد من عبيده إذا كان أكثر من ثلث ماله، وإنما كان للجارية الرائعة أن تباع على غير العتق؛ لأن العتق أضَرُّ بالجارية النفيسة.
قال ابن المواز: وهو كما قْال؛ لأنها قد تتخذ أمّ ولد فتعتق فيكون ذلك خيرا لها، والخادِم تبقى مملوكة أبدا فلا تعتق أحسنُ لها وإن لم ترض بذلك.
قال ابن المواز: وقد أبطل مالك وصية ابن سليمان إذ أوصى أن يعتق جواريه بعد سبعين سنة وَرَآهُ من الضرر.
قال ابن المواز: فإن بيعت بشرط العتق وضع ثلث ثمنها، وإن بيعت بغير شرط لم يوضع من ثمنها شيء، وبالله التوفيق.

.مسألة تباع إن اختارت البيع:

ومن كتاب طلق بن حبيب:
وسئل مالك: عن رجل يوصي في جارية له لَهَا القدرُ أن تخير فإن شاءت بيعت، وإن شاءت أعتقت، ويعتقها بعض من كان ورثها ولعله قد كان بينه وبينها شيء، قال: ليس عتقه بشيء، وأرى أن تباع إن اختارت البيع، ثم قال: ما لهم ولها يعتقونها ليس لهم من ذلك شيء، هو ماله يصنع فيه ما أحب يعني المُوصِي فلا أرى لهم في ذلك قضاء حتى ينفذ من جعل ذلك له، فإما أعتق وإما باع ليس للورثة في ذلك قضاء.
قال محمد بن رشد: قولُهُ: هو مالُه يصنع فيه ما أحب يريد فتُنفَّذُ فيه وصيتُهُ بالتخيير لها بين البيع والعتق، وذلك إذا كان الثلث يحملها، والمسألة متكررة في رسم جاع من سماع عيسى، وقال في سماع سحنون: إن لها أن ترجع إلى البيع بعد أن اختارت العتق، وإلى العتق بعد أن اختارت البيع ما لم يفت الأمر فيها بالبيع والتقويم في العتق، وقال في رسم القطعان من سماع عيسى: إنها إنْ اختارت البيع فبيعت ثم ردت، فقالت: أنا أحب أن أعتق الآن قال: ليس ذلك لها.
وقال ابن وهب: ذلك لها؛ لأن بيعها لم ينفذ، ومعناه إذَا رُدَت بعيب، فالاختلاف في هذا على الاختلاف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع، وبالله التوفيق.

.مسألة الصدقة والوصيةِ والرجل في مرضه ولا يحملها الثلث:

وسئل: عن الصدقة والوصيةِ والرجلُ في مرضه ولا يحملها الثلث أتَرَى أن يبدأ بالصدقة؟ قال: لَا بَلْ يتحاصون، وقد سألني رجل عن رجل أوصى ليتيم ولقوم فلم يَسَعْ ذلك الثلثُ، فقال الرجل: إنّ اليتيم محتاج كأنه رَآهُ من وجه الصدقة فقلتُ له: هم يتحاصون، فقيل له: أفرأيت إن قال في الصدقة بَتْلا لا رجوع فيها عشت أو مت، قال: فلا أدري، قلت له: أفيتحاص الذي تصدق بها عليه والذي أوصى له؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: ظاهرُ هذه الرواية أنّ السؤال فيها إنما هو عن الوصية بالصدقة والصدقَةُ على سبيل العطية هل يتحاصان الوصية بالصدقة على الوصية على سبيل العطية؟ فقال: إنهما يتحاصان. ولا اختلاف أحفظه في ذلك، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: قد قيل: إن الصدقة تقدم على الوصية؛ لأنها للفقراء والوصية للأغنياء فتؤخذ، ولا أعرف هذا القول ولا له وجه يصح، إذ قد يتصدق الرجل على الغني ويعطي الفقير، فلو كانت الصدقة على الغني تبدأ على العطية للفقير لَبَطَلت العلة التي عللت بها تبدية الصدقة على العطية، وإن قلت: إن العطية تبدأ على الصدقة من أجل أنها على فقير لزمك أن تبدي الوصية للفقير على الوصية للغني، وذلك خلاف الإِجماع، وإنما الاختلافُ المعلومُ في الصدقة المبَتلة في المرض والوصية، هل يتحاصان بعد الموت لاتفاقهما جميعا على أنهما من الثلث، أو تبدأ الصدقة المبتلة من أجل أنها تلزم المتصدق إن صح من مرضه، فروى الحارث عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول في الرجل يتصدق بالصدقة في مرضه ويوصي للناس بوصايا ثم يموت فيريد أهل الوصايا أن يدخلوا على المتصدق عليه في الصدقة قال: لا أرى ذلك لهم؛ لأنه لو عاش ثُمّ أراد أن يرجع في صدقته لم يكن ذلك لَه ومثل هذا في كتاب ابن حبيب وفي المختصر لابن عبد الحكم عن مالك، وقد اختلف قولُ مالك من هذا الأصل فيمن بتل عتق عبد في مرضه وأوصى بعتق عبد له آخر، فكان أولَ زمانه يقول: إنه يبدأ المبتل في المرض ثم رجع إلى أنهما يتحاصان وهو الذي يأتي على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس من أنّ للرجل أنْ يرجع عما حبسه في مرضه إن مات منه وقد مضى الكلام على ذلك هناك مشروحا فلا معنى لإِعادته.

.مسألة أوصى بعتقٍ بتل ودبر:

ومن كتاب سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال ابن القاسم: ولو أن رجلا أوصى بعتقٍ بتلٍ ودبر قال: إن كان في كلمة واحدة تحاصا، وإن لم يكن ذلك في كلام واحدٍ يبدّأ بالأول في الأول.
قال محمد بن رشد: قولُهُ: أوصى بعتق بتل لَا يستقيم، فمعناه أنه بتل عتقه في مرضه ودبر عبدا له آخر، وفي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية إنهما يتحاصان إن كان ذلك في كلمة واحدة أي في كلام متصل، وهذا عندي على القول بأنه ليس له أن يرجع عما بتله في مرضه إن مات منه خلافُ ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس من أن للرجل أن يرجع عما حبس في مرضه إن مات منه.
والقول الثاني: أن المدبر يبدأ على المبتل، وهذا عندي على القول بأن له أن يرجع عما بتله في مرضه.
والقول الثالث: أنه يبدأ المبتل في المرض بما له من مزية عليه في أنه إن صح من مرضه عجل عتقه، وهذا كله إذا كان التدبير والتبتل في فور واحد، وأما إن كان أحدهما قبل صاحبه فيبدأ الأول، واختلفَ قولُ مالك في تبدية العتق المبتل في المرض والمدبر فيه على الموصي بعتقه فقال: يبدأ المبَتل والمدبر، وقال أشهب: يتحاصان، قال: وبلغني أن هذا أحد قولي مالك، فأما الاختلاف في المبتل في المرض والموصي بعتقه فله وجه، وهو ما ذكرت من الاختلاف في الرجوع في المبتل في المرض، وأما المدبر في المرض والموصي بعتقه فلا وجه للقول بأنهما يتحاصان؛ لأن الموصي بعتقه يصح الرجوع عنه باتفاق، والمدبر لا يصح الرجوع عنه باتفاق، فوجب ألّا يُختلف في تبدية المدبر وبالله التوفيق.

.مسألة أوصت أن عندها خمسة وثلاثين درهما وأن لها على زوجها أربعة أبعرة:

وسئل: عن امرأة مرضت فأوصت أن عندها خمسة وثلاثين درهما وأن لها على زوجها أربعة أبعرة، فقالت لزوجها وللورثة: إما أن تجعلوا الخمسة والثلاثين الدرهم التي عندي في سبيل الله، وإما أن تجعلوا بعيرا مما لي على زوجي في سبيل الله وتأخذوا الخمسة والثلاثين الدرهم، فلما حضرتها الوفاة سألوها عن الدرهم فلم تخبرهم وهلكت.
قال مالك: أرى أن يخرج عنها في ثلثها البعير الذي جعلته من الأربعة الأبعرة التي لها على زوجها، ولا ينظر في شأن الدراهم التي لم توجد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الدراهم التي لم توجد مصيبتها منهم، ولابد من تنفيذ وصيتها بإخراج البعير من الخمسة الأبعرة التي لها على زوجها، وإنما ذلك بمنزلة من أوصى بعتق أحَدِ هَؤلاءِ الأعبد الخمسة فمات منهم واحد قبل موته وبالله التوفيق.

.مسألة هلكت وأوصت إلى امرأة بوضع ثلثها في مواضع:

وسئل: عن امرأة هلكت وأوصت إلى امرأة بوضع ثلثها في مواضع وأن تجعل البقية حيثُ أراها الله، فكانت تقسمه ثم إن المرأة احتاجت التي استخلفت فقالت: هل ترى لي أن آخذ منه شيئا؟ قال: لا أرى أن تأخذي منه شيئا ولا تأكليه.
قال محمد بن رشد: إذا كانت الموصية قد فوضت إلى هذه المرأة جعل البقية حيث أراها الله من وجوه البر، فكان الذي أراها الله بوجه الاجتهاد أن يفرق تلك البقّية في المَسَاكين فاحتاجت هي حتى صارت في الحاجة بمنزلة من يفرق عليهم تلك البقية من المحتاجين، فلها أن تأخذ منها لنفسها مثل ما يعطي غيرها على ما قاله في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات في الذي خرج غازيا فبعث معه بمال ليعطي منه كل منقطع به فاحتاج هو ولم يكن عنده ما يقوي به إنّ له أن يأخذ منه بالمعروف والمعروف في ذلك هو أن يأخذ منه مثلَ ما يُعطي غيرَه ولا يُحَابى نفسَه في ذلك، وجوازُ ذلك يتخرج على قولين حسبما بينا وجهه هناك، وأما إن كان الذي أراها الله بوجه الاجتهاد من وجوه البر في تلك البقية جَعْلَهَا في غير الصدفة أو في الصدفة على من ليس مثل حالها فلا يصح لها أن تأخذ لنفسها من ذلك شيئا وإنْ كانت محتاجة وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى لجارية له بعشرة دنانير من ثمنها:

ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا:
وسئل: عن رجل أوصى لجارية له بعشرة دنانير من ثمنها أتراه عتقا؟ قال: لا ليس هذا عتقا.
قال عيسى: قال ابن القاسم: وإذا أوصى لها ببعضهما لم يعتق منها إلّا ما أوصى إلّا أن يكون لها مال فيقوم بقيتها في مالها فيعْتق على نفسها وإذا أوصى لها بثلثه عتقت في ثلثه وقومت فيه؛ لأنه حين عتق عليها من نفسها شقص أيحمل عليها مَا بقي من عتق نفسها بمنزلة من أعتق شِرْكا له في رأس فكان يُقوم عليه، فالذي يعتق عليه يتبعض عن نفسه أحْرى أن يُقَوّم عليه ما بقي من نفسه فيما يملك، وهو قول مالك: قال ابن القاسم: ولو كان فيما أوصى لصاحبه ما لا يتم به عتقُها وكان لها مالٌ قبل ذلك عتقت فيه وأخذ منها.
قال محمد بن رشد: أما الذي أوصى لجاريته بعشرة دنانير من ثمنها فبين أنه لا يعتق منها شيء؛ لأنه إنما أوصى لها بعشرة دنانير، فسواء كانت من ثمنها أو من غير ثمنها، بل إذا كانت من ثمنها فهو أحرى ألّا يعتق شيء منها فيها؛ لأنه إنما أوصى لها بالعشرة بعد أن تباع، وأما إذا أوصى له ببعضها، فلا اختلاف في أنه يعتق منها ما أوصى لها به من نفسها إذ قد علم أنه لا يصح لها ملكُ نفسها، أَلا ترى أنه من قال لعبده: قد وهبت لك نفسك أنه بذلك حر، وإنما اختلف إذا أوصى لها ببعضها ولها مَال هل يعتق بقيتها على نفسها في مالها أم لا؟ فقال في هذه الرواية: إنه يقوم بقيتُها على نفسها في مالها، وهو قول ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك، ومثله في سماع عيسى ويحيى، وقيل: إنه لا يقوّم عليها بقيتُها في مالها، وهو قول ابن وهب وروايته عن مالك في المدونة.
وأما إذا أوصى لها بثلثه فقيل: إنها لا يعتق منها إلّا الثلث وهو قول ابن وهب من رأيه، وقيل: إنه يعتق منها الثلث ويقوم بقيتُها على نفسها فيما بقي من الثلث، فإن لم يحملها الثلثُ رَقّ ما بقي منها ولم يقوم عليها في مالها إن كان لها مال من غير الثلث، وهو قول مالك في رواية ابن وهب في المدونة.
ووجه هذا القول أنه إذا أوصى لها بثلث ماله فقد قصد إلى حريتها فيه، وكأنه أوصى أن تعتق فيه وأن تعطى بقيته إن كان فيه فضل عن رقبتها وهذا القول اختيار سحنون فقال فيه: إنه أعدلُ الأقوال.
ووجه قول ابن وهب أنه إذا أوصى لها بثلث ماله فقد قصد إلَى حرية ثلثها وأن تعطي بقية ثلث ماله، فوجب أن يعتق ثلثها وأن تعطي بقية ماله ولا تعتق فيه ولا في مال إن كان لها سِوَاهُ؛ لأنه هو المعتق لثلثها إذا أوصى لها به وهو يعلم أنه لا يصح لها ملكَه، فكان بمنزلة إذا أوصى أن يعتق ثلثها وتعطي بقية ثلث ماله.
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك ما ذكره في الرواية من أنه إذا أعتق عليه بعضها وجب أن يقوم عليها بقيتها فيما بقي من الثلث وفي سائر مالها إن كان لها مال بمنزلة من أعتق شركا له في عبد أنه يقوم عليه بقيتُهُ في ماله، وعلى هذا الاختلاف يأتي الاختلاف في تبدية الوصية للعبد في ثلثه على الوصايا حسبما يأتي القول فيه في رسم أسلم من سماع عيسى إن شاء الله.
وأما إذا أوصى له بدنانير أو بعرض من العروض فلا يعتق شيء منه في ذلك باتفاق إلّا أن يكون ذلك أكثرَ من الثلث فلا يجيز ذلك الورثة حسبما يأتي القول فيه في رسم الرهون من السماع المذكور إن شاء الله وبه التوفيق.

.مسألة توصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يلزم الورثة:

قال: وسئل عن رجل كان شريكا لرجل فمرض أحدهما فأوصى إن فلانا عَالِمٌ بماليِ فما دفع إليكم من شيء فهو فيه مصدق ولا يمين عليه في ذلك، فرُفع أمرُه إلى السلطان وأتى بما قِبَلَه من الناض فقسمه بينه وبين ورثة شريكه، ثم أقام يقتضي ويقسم أقام بذلك عشر سنين وكتب له السلطان براءة من ذلك، وبقي بينهما دين وبلغ الورثةَ فقالوا: نُرِيدُ أن نستحلفك فيما اقتضيت أترى ذلك لهم وهذا الأمر منذ عشر سنين وقد كتب له السلطان منه البراءة؟ قال مالك: أرى أن ينظر السلطان في ذلك ويكشف أمره، فإن رأى أمرا صحيحا لم أرَ أن يستحلفه وإن استنكر شيئا رأيت أن يحلف، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله بعد عشر سنين؟ قال: نعم إن رأى ذلك أمرا يُسْتَنْكَرُ.
قال محمد بن رشد: هذه اليمين في أصلها يمين تهمة وقد اختلف في لحوقها، وتوصية الميت بإسقاط اليمين عنه لا يَلْزَم الورثةَ؛ لأن الحق قد صار إليهم في المال بموته، فإن اتهموه استحلفوه على القول بلحوق يمين التهمة، فلذلك قال: إن السلطان ينظر في ذلك فإن رأى أمرا صحيحا لم تجب لهم عليه يمين، وإن رأى أمرا يستنكر أوجب لهم عليه اليمين وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى بابنه إلى أمه وأوصى أن ينفق عليها حيث كانت:

ومن كتاب أوله يسلف في المتاع:
وسئل: عن رجل أوصى بابنه إلى أمه وأوصى أن ينفق عليها حيث كانت، قال مالك: إن كان صغيرا وكانت محتاجة وكانت تلي مؤنته وحضانته فأرى أن ينفق عليها، فقيل له: أرأيت إن كانت غنية؟ قال مالك: ينظر في ذلك فإن كان ذلك أرفق به في حضانته والقيام به وأنه لو انتزع منها تكلف به من يقوم له عليه ويحضنه رأيت أن ينفق عليها من مال الغلام، وكأني رأيته لا يَرَى لَها النفقة إلّا في صغر الصبي.
قال ابن القاسم: رجع عنه وقال: إن كانت محتاجة انفق عليها، وإن كانت مُوسرة لم ينفق عليها فإن شاءت أقامت على ولدها وإن شاءت ذهبت حيث شاءت وعلى هذا نَبّه غير مرة وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: اختلف قولُ مالك في إيجاب النفقة لِلْحَاضِنِ بحق الحضانة فأوجب ذلك لها في رسم شك في طوافه في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، ولم يوجب ذلك لها في رسم شك المذكور من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، ولا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب منه، والاختلاف في ذلك جار على اختلافهم في الحضانة هل هي من حق المحضون أم من حق الحاضن فمن رآها من حق المحضون أوجب للحاضن أجرته في حضانته وكراء سكناه معه، ومن رآها من حق الحاضن لم يوجب له ذلك؛ لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويَأوِيهِ إلى نفسه ويجب له بذلك عليه حق، وتفرقةُ مالك في هذه الرواية بين أن يوجد من يحضن الصبيِ دون نفقة أو لا يوجد إن نُزِعَ من أمه قول ثالث في المسألة وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى إلى امرأته بولده منها ولم يقل إن تزوجت فانزعوهم منها فأرادت التزويج:

ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق:
وسئل مالك: عن رجل أوصى إلى امرأته بولده منها ولم يقل: إن تزوجت فانزعوهم منها، فأرادت التزويج، قال: أرى إن عزلتهم في بيت على حدة وأقامت لهم ما يصلحهم من خادمهم ونفقتهم فأراها أولى بهم، وإن لم تفعل انتزعوها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القولُ عليها في رسم حلف قبل هذا فلا وجه لِإعادته وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث قال ثلثي يجعل حيث أراد الله:

ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال:
وسئل مالك: عن رجل أوصى بوصية إلى وارث أو غير وارث، قال: ثلثي يجعل حيث أرَادَ الله.
قال مالك: إن كان جعل ذلك إلى وارث هو له فليس له أن ينفذ شيئا من ذلك إلّا أن يعلم الورثة ويخصوهم، وإن كان جعل ذلك إلى غير وارث فإنه ليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا لحاضنةٍ من الناس إلّا أن يكون لذلك وجه يسميه ويذكره وُيعرف أن الذي أعطى أَهْلا لذلك وليس لغير الوارث أن يكتم ما صنع ولا أن يعيبه ولا أرى عليه يمينا في ذلك، وليس الحديثُ في ذلك مثلَ القديم، فأما الأمر القريب العادة من ذلك، فإنه يعلمه، وأما ما قدم من ذلك وطال فليس عليه تجديد ذلك وذكره، والورثة هم أهملوا ذلك بحضرة ذلك وحدثانه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا فوض تنفيذ الوصية إلى غير وارث فليس له أن يأخذها لولده ولا لحاضنةٍ من الناس إلّا أن يكون لذلك وجه يعرف فيه صواب فعله؛ لأنه يتهم في ولده وَخَاصَّتِهِ من الناس فعليه إذا فعل ذلك أن يُعْلِمَ الورثةَ به.
قال أصبغ: إلّا أن يكون الورثةُ صغارا فعليه أن يعلمهم إذا كبروا؛ لأن ذلك من القضاء لنفسه، فعلى ما ذكرته في رسم سَنّ قبل هذا في الذي يوصي إلَى المرأة أن تجعل ثلثه حيث أراها الله، وقوله: ليس له أن يكتم ما صنع ولا يعيبه، معناه أن ذلك ليس من الحظ له أن يفعله فيعرض نفسه للتهمة فإن فعل ذلك وعيبه وادعى أنه قد نقده فلا غرم عليه فيه إلّا أن يتبين كذبه، وهو مصدق في ذلك مع يمينه ما لم يتبين كذبه إلّا أن يطول الأمرُ فلا يكون عليه يمين، هذا معنى قوله في الرواية: ولا أرى عليه يمينا في ذلك، وليس الحادث في ذلك مثلَ القديم، يريد أنّ القديم يصدّق فيه بلا يمين، والحادث يصدق فيه مع يمينه، وقد وقع في بعض النسخ فإنه ليس له أن يأخذه لنفسه ولا لولده ولا أن يحابي منه أحدا من الناس، وذلك بين في المعنى، وقد مضى في أول مسألة من السماع القولُ على بقية المسألة فلا معنى لإِعادة ذلك وبالله التوفيق.

.مسألة ولي اليتم إن كان في حجره وكان لليتيم غنم ودابة أيشرب من لبنها ويركب دابته:

ومن كتاب اغتسل على غير نية:
وقال في ولي اليتيم: إنْ كان في حجره وكان لليتيم غنم ودابة أيشرب من لبنها ويركب دابته؟ قال: إن كان للبن ثمن وهو في موضعِ له ثمن، فلا أحبه وإن كان في موضع ليس له ثمن فلا أرى به بأساَ وأما دابته فلا أحب له أن يركبها ولا أحب له إن كان له مال عنده أن يستسلفه.
قال محمد بن رشد: اتفق أهلُ العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، واختلفوا في القدر الذي يجوز للأوصياء من ذلك ويسوغ لهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يجوز للوصي أن يأكل من مال يتيمه إلاّ بقدر استغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه إن كان محتاجا إلى ذلك، قاله محمد بن المواز في كتابه عمن حكاه عنه من أهل العلم، وذلك على ما جاء عن عبد الله بن عباس، أنه قال للذي جاءه فقال له: إن لي يتيما أفأشْرَبُ من لبن إبله؟ قال ابن عباس: إن كنتَ تبغي ضالة أبله وتلي حرصها وتسقيها يوم وُرُودِها فاشرب غيرَ مُضِر بنسل ولا ناهِكٍ في الحلب، وأما إن كان غنيا عن ذلك فلا يفعل؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6]، وقد قيل: أن للغني أن يأكل منه بقدر قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له، فإن لم يكن له في ماله خدْمة ولا عمل سوى أنه يتفقدُه ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلّا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في هذه الرواية ومثلُ الفاكهة من ثمر حائطه على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الجامع، ولا يركب دوابه ولا ينتفع بظهر إبِلِه ولا يستسلف من ماله ومن أهل العلم من ذهب إلى أن لولي اليتيم إذا كان فقيرا أو احتاج أن يأكل من مال يتيمه بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. واختلف في معنى ذلك، فقيل: هو أن يأكل من ماله بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه، وقيل: هو مَا سَدّ الجوع وَوَارَى العَوْرَةَ ليس لبس الكتانِ ولا الحُلَلَ، وقيل: هو أن يأكل من ثمره ويشرب من رسل ماشِيته بقيامه على ذلك.
وأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منها إلّا على وجه القرض، وقيل: له أن يأكل من جميع المال وإن أتى على المال وليس عليه قضاء، وقيل: معنى قوله عز وجل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] هو أن يأخذ من ماله قدر قوته قرضا فإن أيسر بعد ذلك قَضَاهُ، روي هذا القول عن سعيد بن المسيب، وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: إني أنزلت مال الله مني بمَنْزِلَةِ مال اليتيم إن استغنيت استعففتُ وإن افتقرت أكلتُ بالمعروف فإذا أيسرتُ قضيته وبالله التوفيق.

.مسألة قال ثلثي في سبيل الله وفي المساكين وفي الرقاب:

وقال: من قال: ثلثي في سبيل الله وفي المساكين وفي الرقاب، أو في سبيل الله وحدهُ أو لفلان ثلثي وحدهُ ولفلان مائة دينار، أو قال: في سبيل الله أو في المساكين أو في الرقاب أو في سبيل الله ولفلان ثلث مالي، قال: يعارلون الذي سمى له المائة.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إن الوصية بالجزء والتسمية يحاص بينهما ولا يبدأ أحدهما على الآخر سواء كانت التسمية لمعين والجزء لغير معين في وجه واحد أو في وجوه شتى أو كان الجزء لمعين والتسمية لغير معين في وجه واحد أو في وجوه شتى.
ومثله في رسم الوصايا الأول من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، وروى ذلك أيضَاَ علي بن زياد عن مالك، وذلك إذا أبهم التسمية ولم يقل فيها إنها من الثلث مثل أن يقول عشرة دنانير من ثلثي لفلان أو في وجه كذا منه ولفلان أو في وجه كذا ثلثي أو قال لفلان أو في وجه كذا ثلثي ولفلان أو في وجه كذا منه عشرة دنانير فإن التسمية تبدأ قاله في رسم الوصايا المذكور، ولا خلاف في ذلك إذا أتى بمن قدمها أو أخرها إلّا أنه إذا أخرها كان الأمر في التبدية آكد.
وقد روي عن مالك: أن التسمية تقدم على الجزء، وروي عنه أن الجزء يقدم عليها، فهي ثلاثة أقوال لمالك إذا لم يأت في ذلك بمن وبالله التوفيق.